12 يوليو 2015

هام: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون





وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا
(الفرقان: 20)

وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من الله تعالى كما قال: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً)  الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من العاصين والرسل فتناهم بدعوة الخلق، والغنى فتنة للفقير والفقير فتنة للغني، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن والابتلاء والاختبار.
والقصد من تلك الفتنة ( أَتَصْبِرُونَ ) فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة؟
( وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) يعلم أحوالكم، ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

الشيخ العلامة/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله
....................
....................

قال شيخ الإسلام العلامة بن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان:

وهذا عام في جميع الخلق امتحن بعضهم ببعض فامتحن الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم وتحمل المشاق في تبليغهم رسالات ربهم، وامتحن المرسل إليهم بالرسل وهل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم أم يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم، وامتحن العلماء بالجهال هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم ولوازم ذلك وامتحن الجهال بالعلماء هل يطيعونهم ويهتدون بهم وامتحن الملوك بالرعية والرعية بالملوك وامتحن الأغنياء بالفقراء والفقراء بالأغنياء وامتحن الضعفاء بالأقوياء والأقوياء بالضعفاء والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة وامتحن المالك بمملوكه ومملوكه به وامتحن الرجل بامرأته وامرأته به وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال والمؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم وامتحن المأمورين بهم ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل وقالوا : لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ  هؤلاء وقالوا لنوح عليه السلام : قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ  قال تعالى : وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا فإذا رأى الشريفُ الرئيسُ المسكينَ الذليلَ قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم فيكون مثله وقال : أُسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء.
قال الزجاج : كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام فيمتنع منه لئلا يقال : أسلم قبله من هو دونه فيقيم على كفره لئلا يكون للمسلم السابقة عليه في الفضل .


ومن كون بعض الناس لبعضهم فتنة : أن الفقير يقول : لم لم أكن مثل الغني ويقول الضعيف : هلا كنت مثل القوى ويقول المبتلى هلا كنت مثل المعافى وقال الكفار : قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ

قال مقاتل : نزلت في افتتان المشركين بفقراء المهاجرين نحو بلال وخباب وصهيب وأبي ذر وابن مسعود وعمار كان كفار قريش يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا قال الله تعالى : إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ   فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ   إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ
فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم كما قال تعالى : وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ
قال الزجاج أي أتصبرون على البلاء فقد عرفتم ما وجد الصابرون
 
قلت : قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر ههنا وفي قوله :
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له ومخلصة من الذنوب كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة

فالفتنة كير القلوب ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب
قال تعالى :
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب ومؤمن ومنافق وطيب وخبيث فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه ونجا بصبره من فتنة أعظم منها ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها .

فالفتنة لا بد منها في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ  ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ  فالنار فتنة من لم يصبر على فتنة الدنيا قال تعالى في شجرة الزقوم : إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قال قتادة : لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا : يكون في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله عز و جل : إِنّهَا شَجَرَة تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ فأخبرهم أن غذاءها من النار أي غذيت بالنار.
قال ابن قتيبة : قد تكون شجرة الزقوم نبتا من النار ومن جوهر لا تأكله النار وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحياتها ولو كانت على ما يعلم لم تبق على النار وإنما دلنا الله تعالى على الغائب عنده بالحاضر عندنا فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة وما في الجنة من ثمرها وفرشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك
والمقصود : أن هذه الشجرة فتنة لهم في الدنيا بتكذيبهم بها وفتنة لهم في الآخرة بأكلهم منها .

وكذلك إخباره سبحانه بأن عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر كان فتنة للكفار حيث قال عدو الله أبو جهل : أيخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم تخرجون من النار فقال أبو الأسد : يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة
فكان ذكر هذا العدد فتنة لهم في الدنيا وفتنة لهم يوم القيامة.

والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا كما أن المؤمن مفتون به ولهذا سأل المؤمنون ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا كما قال الحنفاء :
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ   رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
وقال أصحاب موسى عليه السلام : رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
قال مجاهد : المعنى لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا
وقال الزجاج : معناه : لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك.
وقال الفراء : لا تظهر علينا الكفار فيروا أنهم على حق وأنا على باطل
وقال مقاتل : لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيكون ذلك فتنة لهم وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلاً من الفريقين بالفريق الآخر فقال : وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا فقال الله تعالى : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ

والمقصود : أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة وفتن أولئك بهم فكل من النوعين فتنة للآخر فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها فإن تدارك ذلك بالتوبة النصوح وإلا فبسبيل من هلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تركت بعدي فتنة أضر من النساء على الرجال أو كما قال.

فالعبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة وشيطانه المغوى المزين وقرنائه وما يراه ويشاهد مما يعجز صبره عنه ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر وذوق حلاوة العاجل وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا وكون العوض مؤجلا في دار أخرى غير هذه الدار التي خلق فيها وفيها نشأ فهو مكلف بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به :

فوالله لولا الله يُسعد عبده ... بتوفيقه والله بالعبد أرحم
لما ثبت الأيمان يوماً بقلبه ... على هذه العلات والأمر أعظم
ولا طاوعته النفس في ترك شهوة مخافة ... نار جمرها يتضرم
ولا خاف يوماً من مقام إلهه ... عليه بحكم القسط إذ ليس يُظلم
................................
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق