سلامة الصدر واللسان
مقال
لفضيلة الشيخ/ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
لفضيلة الشيخ/ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
حفظه الله
إنَّ من سمات المؤمنين العظيمة وصفاتهم
الكريمة الدالة على كمال إيمانهم وتمام دينهم ونُبل أخلاقهم : سلامة صدورهم
وألسنتهم تجاه إخوانهم المؤمنين ؛ فليس في قلوبهم حسد أو غل أو بُغض أو ضغينة ،
وليس في ألسنتهم غيبة أو نميمة أو كذب أو وقيعة ، بل لا يحملون في قلوبهم إلا
المحبة والخير والرحمة والإحسان والعطف والإكرام ، ولا يتلفظون بألسنتهم إلا
بالكلمات النافعة والأقوال المفيدة والدعوات الصادقة .
هؤلاء هم الذين قال الله فيهم : {
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]
. فنعتهم ربهم بخصلتين عظيمتين وخلَّتين كريمتين ؛ إحداهما تتعلق باللسان ، فليس
في ألسنتهم تجاه إخوانهم المؤمنين إلا النصح والدعاء { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } ،والخصلة الثانية متعلقة
بالقلب ؛ فقلوبهم سليمة تجاه إخوانهم ، ليس فيها غل أو حسد أو حقد أو ضغينة أو نحو
ذلك .
إن سلامة الصدر واللسان هما من أوضح الدلائل
وأصدق البراهين على تمام الإيمان وكماله ، وقد كان السلف رحمهم الله يعدُّون
الأفضل فيهم من كان سليم الصدر سليم اللسان . قال إياس بن معاوية بن قرة : "
كان أفضلهم عندهم – أي السلف – أسلَمهم صدوراً وأقلهم غيبة " . وقال سفيان بن
دينار : " قلتُ لأبي بشر : أخبرني عن أعمال من كان قبلنا ، قال : كانوا
يعملون يسيراً ويؤجرون كثيرا ، قلت : ولم ذاك ؟ قال لسلامة صدورهم " .
لقد كان السبب الأعظم لسلامة صدور هؤلاء
الأخيار وألسنتهم هو قوة صلتهم بالله وشدة رضاهم عنه ، كما قال ابن القيم رحمه
الله : " إنه – أي الرضا عن الله – يفتح له باب السلامة فيجعل قلبه سليماً
نقياً من الغش والدغل والغل ، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم .
كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا ، وكلما كان العبد أشد رضًا كان
قلبه أسلم ، فالخبثُ والدغل والغش: قرين السخط ، وسلامة القلب وبرُّه ونصحه: قرين
الرضا ، وكذلك الحسدُ هو من ثمرات السخط ، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضا
" ا.هـ .
وثمرات سلامة القلب الذي هو ثمرة من ثمرات
الرضا لا تُعدُّ ولا تحصى ، فسلامة الصدر راحة في الدنيا وأنس وطمأنينة ، وثوابه
في الآخرة من أحسن الثواب ، وغنيمته أكبر غنيمة .
لما دُخِل على أبي دجانة رضي الله عنه وهو
مريض كان وجهه يتهلَّل ، فقيل له : ما لوجهك يتهلل ؟ فقال : ما من عملِ شيء أوثقُ
عندي من اثنتين : كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، والأخرى فكان قلبي للمسلمين
سليماً .
ومما يعينُ المسلمَ على سلامة صدره ولسانه
تجاه إخوانه : اللجوء إلى الله عز وجل وسؤاله بصدق وإخلاص ، والنظر في العواقب
الحميدة والنتائج المباركة في الدنيا والآخرة المترتبة على ذلك ، وكذلك النظر في
العواقب السيئة والنتائج الوخيمة التي يجنيها ويحصِّلها من كان في قلبه غل أو حقد
أو حسد أو نحو ذلك .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في
أدعية كثيرة أُثِرت عنه سؤال الله هداية القلب وسلامته وثباته ، فعن زيد بن أرقم
رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( ... اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ
زَكَّاهَا ... اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ
قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ...)) [1].
وعن أنس رضي الله عنه قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : (( يَا مُقَلِّبَ
الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ )) [2].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ... وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : (( اللَّهُمَّ
اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا )) [3].
إلى غير ذلك من أدعيته الشريفة - صلوات الله وسلامه عليه - .
والواجب على كل مسلم أن يجاهد نفسه مجاهدة
تامة في استصلاح قلبه وتزكية فؤاده وتنقيته من الإرادات السافلة والشهوات الدنيئة
والغايات المنحطَّة ، ويصبر على ذلك في حياته ليلقى الله بقلب سليم .
ومن الأدعية العظيمة النافعة في باب سلامة
الصدر واللسان : ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَالَ
أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ
وَإِذَا أَمْسَيْتُ ؟ قَالَ : (( قُلْ : اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ
، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي
وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ - وفي رواية أخرى : وَأَنْ أَقْتَرِفَ
عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ - قَالَ : قُلْهُ إِذَا
أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ
)) [4].
فقد تضمن هذا الحديث العظيم الاستعاذة بالله
من الشر وأسبابه وغايته ؛ فإن الشر كله إمَّا أن يصدر من النفس أو من الشيطان
فاستعاذ بالله منهما في قوله : ((أَعُوذُ
بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ
)) . وغاية الشر إما أن تعود على العامل نفسه أو على أخيه المسلم ، وفي هذا الحديث
الاستعاذة من ذلك : ((وَأَنْ
أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ
)) .
فتضمن هذا الحديث الاستعاذة من مصدري الشر
اللذين يصدر عنهما ، وغايتيْه التين يصل إليهما ؛ فلله ما أكمله من دعاء وما أجمل
مقاصده وأروع دلالته ، وما أجمل أن يوظفه المسلم في أذكار صباحه ومسائه وعند نومه
كما أرشد إلى ذلك الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه .
*********
________________
[1]
رواه مسلم (2722) .
[2]
رواه الترمذي (2140) ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن الترمذي) (1739) .
[3]
رواه البخاري (6316) ، ومسلم (763) .
[4]
رواه الترمذي (3392) ، (3529) ، وأبو داود (5067) ، (5083) ، وصححه الألباني رحمه
الله في (صحيح سنن الترمذي) (2701) .