تأملات في كلام شيخ الإسلام بن تيمية
في الأسباب المعينة على الصبر على أذى الخلق
محاضرة
لفضيلة الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحيم البخاري
حفظه الله
-------------
-------------
التحميل
-------------
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبو
العباس أحمد بن تيمية الحراني - رضي الله عنه -:
جعل الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بكل منزلة خيرًا منه، فهم دائمًا في
نعمة من ربهم، أصابهم ما يحبون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم
ويقدرها عليهم متاجر يربحون بها عليه، وطرقًا يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح
عن إمامهم ومتبوعهم - الذي إذا دُعي يوم القيامة كل أناس بإمامهم دُعوا به- صلوات
الله وسلامه عليه أنه قال: «عجبًا لأمر المؤمن إن
أمره كله عجبٌ، ما يقضي الله له من قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراءُ شكر
فكان خيرًا لهُ، وإن أصابتهُ ضراءُ صبر فكان خيرًا لهُ».
فهذا الحديث يعم جميع أقضيته لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على
مكروهها وشكر لمحبوبها، بل هذا داخل في مسمى الإيمان فإنه كما قال السلف: الإيمان
نصفان نصف صبر، ونصف شكر، كقوله تعالى: }إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ{
وإذا اعتبر العبد كله رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر، وذلك لأن الصبر
ثلاثة أقسام :
صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبر ومصابرة، ومجاهدة لعدوه
الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات.
النوع الثاني:
صبر عن المنهي حتى لا يفعله، فإن النفس ودواعيها
وتزيين الشيطان وقرناء السوء تأمره بالمعصية وتجرئه عليها، فبحسب قوة الصبر يكون
تركه لها، قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يقدر على ترك
المعاصي إلا صديق.
النوع الثالث:
الصبر على ما صيبه بغير اختياره من
المصائب، وهي نوعان:
نوع لا اختيار للخلق فيه: كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية فهذه يسهل الصبر فيها؛ لأن العبد
يشهد فيها قضاء الله وقدره،وأنه لا مدخل للناس فيها، فيصبر إما اضطرارًا وإما
اختيارًا، فإن فتح الله على قلبه باب الفكرة في فوائدها، وما في حشوها من النعم
والألطاف، انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذ في حقه
نعمة، فلا يزال هجيري قلبه ولسانه فيها: «رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».
وهذا يقوى ويضعف بحسب قوة محبة العبد لله
وضعفها، بل هذا يجده أحدنا في الشاهد، كما قال بعض الشعراء يخاطب محبوبًا له ناله
ببعض ما يكره:
لئن ساءني أن نِلتِنِي بمساءة ** لقد سرني أني خطرت ببالِكِ
النوع الثاني: ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه، فهذا النوع يصعب الصبر عليه جدًّا لأن النفس
تستشعر المؤذي لها وهي تكره الغلبة فتطلب الانتقام فلا يصبر على هذا النوع إلا
الأنبياء والصديقون.
وكان نبينا صل الله عليه وسلم إذا أُوذي
يقول: «يرحم الله موسى لقد أذوي بأكثر من هذا فصبر»،وأخبر عن نبي من
الأنبياء أنه ضربه قومه فجعل يقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»،
وقد روي عنه صل
الله عليه وسلم أنه جرى له مثل هذا قومه فجعل يقول مثل ذلك ، فجمع في
هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون.
وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر والهدى والسرور والأمن، والقوة في ذات
الله، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له، وزيادة العلم؛ ولهذا قال الله تعالى: }وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا
يُوقِنُونَ{.
فالصبر واليقين ينال بهما الإمام في الدين ، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة
اليقين والإيمان ترقي العبد في درجات السعادة بفضل الله تعالى، و}ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{؛ ولهذا قال الله تعالى: }ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{.
-------------